انطلقت مظاهرات ذوى السترات الصفراء الفرنسية فأطلقت معها زخم ثورة يناير المصرية .. عبق الثورة مازال ساريا رغم الإنكسار وأثرها مازال مثيرا للتخوف رغم الهزيمة.. سنوات لم تنل من قناعة مؤيديها رغم المرارة ولم تفتت رغبة إنتقام معارضيها رغم الإنتصار.. تعلقت عيون الطرفين بمايجري فى الشانزليزيه لتعيد معها ماجرى فى التحرير.. نفس المشاهد تكاد تتكرر، نفس المطالب، الهتافات، التصعيد، الإختراق، محاولة التشويه، حتى حزب الكنبة كان حاضرا، اختلافات بسيطة فى البداية فقط هي مافرقت ديسمبر الفرنسية عن يناير المصرية.. فبينما اندلعت المظاهرات الفرنسية إحتجاجا على زيادة أسعار الوقود كانت الشرارة التى أطلقت شرارة الثورة المصرية هي الاحتجاج على القهر والذل وغياب الحرية وإهدار الكرامة وإن كان "العيش أيضا هو أحد مطالبها"، ومثلما تجاهل مبارك ونظامه صيحات الغضب تجاهل ماكرون احتجاجات أصحاب السترات الصفراء.. عناد وغطرسة واستهانة قابلها المحتجون برفع سقف المطالب من خفض الضرائب وتكاليف معيشة الفقراء ليصل للمطالبة بإسقاط ماكرون نفسه تماما مثلما طالب ثوار يناير بإسقاط مبارك.
ماكرون بتجاهله عمق الهوة بينه وبين المتظاهرين وأكد صورته الراسخة فى أذهانهم بإعتباره رئيسا للأثرياء كما يصفونه، ثلاثة أسابيع من الإحتجاجات لم تسلم بالطبع من تسلل بعض المخربين ليقوموا بأعمال بلطجة وعنف تعطى مظلة للشرطة للرد الأكثر عنفا، هناك دائما طرف خفى ثالث يشعل النيران لكن بات واضحا أيضا أن عمليات التخريب تلك لاتصب فى صالح المتظاهرين بقدر ماتصب فى صالح معارضيهم، هناك دائما مظلة حماية يلجأ إليها كل نظام لتشويه خصمه وتبرئة ساحته ليتسنى له قمع المتمردين وإنهاء ثورتهم، لم تشفع "سلمية" التي انطلقت بها الحناجر المصرية ولا "مسالمون" التى أطلقها الفرنسيون دون سقوط ضحايا ولم تحل دون إراقة دماء بريئة. هناك دائما من يحلو له النفخ فى النيران حتى تحرق المتظاهرين وتئد الثورة، محاولات الإختراق والتشويه صاحبتها بالطبع محاولات لمد جسور الحوار، وهو ما رفضه أصحاب السترات الصفراء.
بدأ إجراء الحوار مع المتظاهرين عصيا، خاصة وأنه لا قائد يمكنه أن يتحدث بإسمهم ولاجماعة يمكنها أن تدعى أنها تمثلهم، فالحركة شعبوية تلقائية انطلقت كما عبر عنها أصحابها ببلاغة "عندما تزرع البؤس تحصد الغضب".. زرع ماكرون بسياسته المتحيزة للأغنياء البؤس فى نفوس الفقراء، كبلهم بالضرائب وزيادة الأسعار وارتفاع مستوى المعيشة، وبالغ فى تدليل الاثرياء فلم يقم بفرض أى ضريبة عليهم، فحصد غضب الفقراء وتمردهم وعصيانهم وتظاهراتهم، غضب لم تجدي معه عصا النظام ولا جزرته، فلم يكن أمام ماكرون وحكومته سوى التراجع خطوة للخلف، فألغت الحكومة الفرنسية زيادة الضرائب، ولم تكتف فقط بتعليق فرضها لمدة ستة أشهر وأبدت نيتها إعادة النظر فى ضريبة الثروة على الإغنياء وكررت دعوتها للحوار مع اصحاب السترات الصفراء.
هكذا أحنت الحكومة رأسها لعاصفة الإحتجاجات فى حركة بدت سياسية ماكرة. تراجعت بخطوة جيدة ومحسوبة بهدف إخماد حدة الغضب وإضعاف صوت المتظاهرين.. هل تنجح فى تحقيق ذلك أم أن حلقات أخرى من الصراعبينها وبين أصحاب السترات الصفراءما زالت منتظرة؟ الكل يترقب مزيدا من الحلقات خاصة مع دعوة بعض الاصوات المحتجة لمزيد من التصعيد وتكثيف مظاهرات "السبت" تماما مثل مليونيات الغضب التى كان يطلقها ثوار يناير كل "جمعة".
تحتبس أنفاسنا ونحن نتابع مايجري فى فرنسا رغما عنا ..كل يجد فيها ضالته، مؤيدو يناير يتابعون مايجرى بضحكة ساخرة مريرة على ما آلت إليه ثورتهم ويغبطون نجاحا مأمولا للمتظاهرين الفرنسيين .. وكارهو يناير لا يكفون عن سب أصحاب السترات الصفراء ورفض تراجع الحكومة الفرنسية بالإستجابة لمطالب الثوار لأنه سيرفع من سقف مطالبهم! وكأن فشل يناير لايكفيهم وكان فوبيا الثورة المصرية أصابتهم بالفزع من أى حراك شعبي فلا يكفون عن محاربته ووأده حتى وإن كان فيما وراء البحار.
-----------------------
بقلم: هالة فؤاد